|
||
صديق لي، ترعرع في مصر وشارك في عام 1965، في التحقيق مع الضباط المصريين الذين سقطوا في الأسر في حرب سيناء. من بين ما رواه له لفتينانت كولونيل مصري قال: "في كل مرة كنا نسمع فيها بأن دافيد بن غوريون ألقى خطابا في الراديو وأعلن أنه يمد يده للسلام، كنا نعلن حالة الاستنفار." وبالفعل، كان هذا أسلوب بن غوريوني محض: قبل أن يشن هجوما عسكريا، كان يعلن بأن "يدنا ممدودة للسلام!"، وفي معظم الأحيان كان يضيف أنه على استعداد للقاء الزعماء العرب وجها لوجه، وأنه يؤيد إجراء محادثات دون قيد أو شروط مسبقة، وغيرها. يوجد الآن وريث لبن غوريون. صحيح أن بن غوريون لم يكن ليحلم في أفظع كوابيسه بوريث على هيئة أولمرت، الذي يجسد كافة الخصائص التي كان بن غوريون يمقتها، ولكن ليس الأموات هم الذين يهللون، ومن وافته المنية لا يمكنه أن يختار وريثا له أبدا. في الأسبوع المنصرم سدد أولمرت خطاه إلى ضريح بن غوريون في النقب، وألقى هناك خطابا احتفاليا هدفه تحديد مكانته كوريث. لا يجدر بنا أن نسهب في الكلام عن هذه المزاعم، ولكن يجدر بنا بالتأكيد أن نحلل الخطاب ذاته. يبدو لأول وهلة أنه خطاب مسالم، لم نسمع مثيلا له منذ وقت طويل. كان هناك من ادعى بأن هذا هو رد أولمرت على توجه الأديب دافيد غروسمان إليه في الاحتشاد لذكرى إسحق رابين. هناك حقا تشابه بين الخطابين: فكما أن خطاب غروسمان كان مفعما بالقيم السامية وخاليا من الاقتراحات العملية، هكذا امتاز أولمرت في الاستعارات والتشبيهات، وفشل في اختبار المضامين. ما الذي قاله، عمليا؟ "إذا تمت إقامة حكومة جديدة لديكم (الفلسطينيين)، فستكون ملزمة بتنفيذ مبادئ الرباعية الدولية، حكومة تطبق خارطة الطريق وتعمل على إطلاق سراح غلعاد شليط - سأقترح على أبي مازن أن نلتقي فورا، بهدف إدارة حوار حقيقي، مفتوح، صريح وجدي بيننا وبينكم." يبدو هذا الأمر منطقيا، ولكن إذا دققنا النظر، فسنرى أنه ما هو إلا فقاعة صابون. منذ أيام بن غوريون، أخذت كافة حكومات إسرائيل تنتهج ألاعيب مثبتة: أن نقول "نعم" لاقتراح سلام، وأن نرفق هذا الاقتراح بشرط مسبق صغير، يحوّل الـ"نعم" إلى "لا". ما الذي يطلبه أولمرت من الحكومة الفلسطينية؟ أمورا صغيرة: الاعتراف بوجود إسرائيل من دون رسم حدودها (من دون أن تعترف إسرائيل وجود دولة فلسطينية في إطار حدود عام 1967)، وقف العنف (من دون التزام مواز من قبل إسرائيل) والاعتراف بكافة الاتفاقيات التي تم توقيعها في الماضي (التي تم خرق معظمها من قبل إسرائيل ليس بأقل مما خرقها الفلسطينيون). إضافة إلى ذلك، يتوجب على الحكومة الفلسطينية أن تطبق خارطة الطريق. هذا المستند السخيف، من إنتاج بوش وشركاه، يطالب الفلسطينيين بتفكيك "المنظمات الإرهابية" في المراحل الأولية. المقصود هنا هي التنظيمات العسكرية التابعة لكافة الأحزاب الفلسطينية. طالما تواصل الاحتلال، فهذا طلب غير ممكن بتاتا، ومن الطبيعي ألا يوافق الفلسطينيون على ذلك. هذا أشبه بأن يُطلب من إسرائيل أن تفكك الجيش الإسرائيلي كخطوة أولى. لا يقترح أولمرت بأن تقوم إسرائيل هي أيضا بتطبيق خارطة الطريق. بموجب المستند، وبموازاة تفكيك المنظمات الفلسطينية، يتوجب على إسرائيل وقف كافة عمليات الاستيطان. هذه العمليات لم توقف حتى ولو للحظة واحدة، وهي مستمرة الآن أيضا بكل قوة. وماذا سيحدث بعد أن ينفذ الفلسطينيون كافة هذه المطالبات أحادية الجانب؟ سيوافق أولمرت على لقاء أبي مازن "فورا". وما هو الهدف من ذلك؟ لإدارة "حوار حقيقي، مفتوح، صريح وجدي." لقد تم اختيار الكلمات بعناية فائقة. هي ليست"محادثات"، لا قدّر الله، بل "حوار"، وهو مصطلح غير ملزم بتاتا. لو أخرجنا من الجملة الكلمات الرنانة والفارغة من المضمون "فورا"، "حقيقي"، "مفتوح"، "صريح" و"جدي" - لما تبقى في هذا الخطاب شيئا سوى الموافقة على "اللقاء". من الممكن أن هناك من يتوق إلى اللقاء بأولمرت - هذا شأن من شؤون اللباقة - ولكن لا يوجد في ذلك أي مضمون سياسي. أولمرت لا يبخل بالكلمات. "في إطار الحوار (مرة أخرى، "حوار" وليس "محادثات") ووفقا لخارطة الطريق (أنظر أعلاه) سيتمكنون (الفلسطينيون) من إقامة دولة فلسطينية مستقلة، قادرة على البقاء لها تواصل جغرافي في يهودا والسامرة (أولمرت متشبث بمصطلحات الاحتلال ليتحاشى قول "الضفة الغربية")، دولة تتمتع بسيادة كاملة في حدود ثابتة." هذا جميل حقا. الأمر لم يعد "حدودا مؤقتة"، كما جاء في خارطة الطريق، بل "حدود ثابتة". والسؤال هو، أين ستكون هذه الحدود؟ سيقولون: ليس علينا أن نكشف المواقف النهائية قبل المحادثات. ولكنهم يطلبون من الفلسطينيين أن يقدموا كل شيء قبل بداية "الحوار". "سنوافق على إخلاء مناطق كثيرة وبلدات كنا قد أقمناها فيها. هذا أمر صعب جدا بالنسبة لنا - إنه بمثابة شق البحر الأحمر (مصطلح مأخوذ من التوراة، حين شق موسى البحر بعصاه) نحن سنفعل ذلك، مقابل سلام حقيقي بيننا وبينكم." إن لهذا وقع طيب على الآذان. ولكن ما هو القصد؟ إخلاء "مناطق كثيرة"، وليس "كل المناطق"، حتى ولا "معظم المناطق". ليست "حدود الرابع من حزيران 1967". إنها ليس حتى "حدود ترتكز على الخط الأخضر"، التي تعني تغييرات طفيفة وتبادل مناطق متفق عليها، بل حدود جديدة، تضم إلى إسرائيل "الكتل الاستيطانية"، كما تم تعريفها بواسطة الجدار العنصري. أي بما معناه، ضم 10% على الأقل من الضفة الغربية، وربما أكثر من ذلك بكثير. ولم لا؟ ففي هذه المرحلة سيكون الطرف الآخر منزوع السلاح، فقير قدر الإمكان، وهو قد وافق على الاعتراف بدولة إسرائيل من دون حدود محددة. هذه خطة أريئيل شارون القديمة: تفكيك المستوطنات الصغيرة والنائية، التي يعيش فيها حوالي 20% من المستوطنين، بهدف ضم المناطق التي يعيش فيها 80% من المستوطنين. أولمرت لا يصرح بما يسكون مصير غور الأردن الموسّع، الذي يشكل خمس مساحة الضفة الغربية، والذي كان قد تم عزله تماما (فيما عدا أريحا). إنه لا ينبس ببنت شفة واحدة عن القدس الشرقية، التي استوطن فيه 200 ألف إسرائيلي أخر. إنه يعد بأنه مع إطلاق سراح الجندي الأسير، غلعاد شليط، سيكون مستعدا "لإطلاق سراح فلسطينيين كثيرين، حتى ممن تم الحكم عليهم بأحكام طويلة، لتعزيز الثقة بيننا، لنثبت أن أيدينا ممدودة لسلام حقيقي بالفعل." بعد أن نخرج كل الترّهات من هذه الجملة، يقول هو أنه سيوافق على إطلاق سراح الأسرى القدامى، الذين يوجد "دم على أيديهم" مقابل الجندي، كما تطالب حماس. هذا يؤكد الادعاء الفلسطيني، بأن إسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة، وهي لن تعطي شيئا إلا إذا تم إرغامها على ذلك. يبدو أن مزاج أولمرت كان سخيا جدا، ولذلك أضاف: "فور وقف الإرهاب والعنف، سنقوم بتقليص الحواجز بشكل ملحوظ، ونزيد من حرية التنقل في المناطق، سنسهل تنقل الأشخاص والبضائع بالاتجاهين، سنحسن التعاون في المعابر الحدودية إلى قطاع غزة، سنحرر الأموال التي بحوزتنا، لنخفف الضائقة الإنسانية التي تثقل العبء على الكثيرين منكم." "شكرا، شكرا لك من صميم القلب،" سيرد الفلسطيني ويضيف" "مقابل وقف نضالنا، لن نحظى بإنهاء الاحتلال، ولا حتى فك الحصار عن غزة. ما سنحصل عليه هو إلغاء بعض الحواجز، وإبقاء معظمها. ليس إرجاع الحركة الحرة، بل موافقة على "زيادة" الحركة المسموح بها. ليس فتح المعبر بين قطاع غزة والضفة الغربية (كما تقرر قبل 13 سنة في اتفاقية أوسلو)، ولكن على الأقل سيعيدون للفلسطينيين الأموال "التي بحوزة" إسرائيل. بكلمات أخرى، الأموال التي سرقناها منهم. وما الذي لم يتم إدراجه في الخطاب؟ اقتراح لوقف إطلاق النار في الضفة الغربية أيضا. لماذا؟ لأن قادة الجيش يعارضون ذلك. ولكن كل طفل يدرك أنه إذا لم يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار هناك، فإن وقف إطلاق النار لن يدوم في قطاع غزة أيضا. أعضاء التنظيمات لن يجلسوا مكتوفي الأيدي بينما يُقتل زملاؤهم وأخوتهم في الضفة الغربية، يصابون ويعتقلون، من دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم. ناهيك عن التجزئة النابعة من هذا الاقتراح، هي مخالفة لاتفاقية أوسلو، القاضية بشكل جازم أن الضفة الغربية وقطاع غزة تشكلان وحدة واحدة. إذن كيف نعرف هذا الخطاب؟ يسهل أن نشرح ما هو غير موجود: هذا ليس "منعطفا" في سياسة الحكومة. "المنعطف" هو تغيير اتجاه، يلزم بإعداد الرأي العام، شرح ماهية التغيير، تعليلاته ونتائجه. لم يكن أي شيء من هذا القبيل، حتى أن الناطقين بلسان اليمين المتطرف لم يكترثوا له. التعريف الصحيح هو "إسفين" - خداع نظر آخر تم تحضيره من قبل المستشارين المتخصصين في الإعلانات. صحيح أنه يمكن أن يكون للإسفين قيمة إيجابية. لقد قرر أولمرت تكريس هذا الإسفين الجديد لشؤون السلام، وليس لشؤون الحرب. هذا معناه أنه يفترض أن الرأي العام في إسرائيل يتقدم في هذا الاتجاه. يمكننا أن نهنئ معسكر السلام الإسرائيلي بذلك. ولكن ليس هناك أي سبب للرقص في الساحات. لماذا ألقى أولمرت مثل هذا الخطاب؟ لماذا الآن بالذات؟ هناك سبب داخلي. لقد نشأ في إسرائيل اعتقاد (صحيح) أن هذه حكومة بلا أجندة، بلا برنامج سياسي، حكومة "فارغة" (على حد أقوال غروسمان)، هدفها الوحيد هو البقاء السياسي. رأى أولمرت أن هناك حاجة إلى ملء الفراغ وخلق صورة لرئيس حكومة يعرف ما يفعل ويصبو إلى هدف واضح. وهناك أيضا أسباب خارجية - وليس من المستغرب أن تكون أهم بكثير. أولمرت هو رجل مفلس، ولكن الرئيس بوش هو مفلس أكبر. إنه يأتي إلى الشرق الأوسط ليثبت للناخب الأمريكي أنه يعرف ما يفعل في العراق وفي المنطقة بأسرها. إنه يحتاج إلى إنجاز بارز. لقد تعلم ممن سبقه في المنصب أنه عندما لا يوجد لدى الرئيس الأمريكي ما يفعله، فإنه يتوجه إلى النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني ويتوصل إلى "مخرج من الطريق المسدود". لقد طالب بوش أولمرت بأن يقدم تنازلا يترك أثرا في العالم. وهذا ما فعله بالفعل - خطاب تبح له الحناجر، أطلق الاستعارات والتشبيهات الرنانة، ولكنه وعد وعودا لا تغطية لها. علينا أن نتذكر: بوش يريد أن يبدو سياسيا مقداما، يؤلف جبهة من الدول العربية "المعتدلة" ضد محور الشر الذي تشارك فيه إيران، سوريا، حزب الله وحماس. لذلك حضر إلى عمّان، بدل أن يدعو خدامه إلى واشنطن. ولكن زعماء سوريا، مصر والأردن لا يريدون أي يبدوا كعملاء لإسرائيل. لذلك طالب بوش أولمرت بأن يشمل في خطابه الفقرة التي تتحدث عن مبادرة السلام السعودية، التي رفضتها إسرائيل رفضا قاطعا، حتى بعد أن قبلتها كافة الدول العربية. تقول هذه المبادرة، كما هو معروف، أن كل العالم العربي يعترف بإسرائيل ويقيم معها علاقات طبيعية، إذا انسحبنا إلى حدود عام 1967. الآن، وفجأة، يعلن أولمرت أن فيها بعض الأمور "الإيجابية". ولكنه لم يقبلها الآن أيضا. عاد بوش إلى دياره ونسي الموضوع بأسره. خطاب أولمرت سينضم إلى ما سبقه من خطابات، إلى كافة خطابات أولمرت التي طواها النسيان غداة إلقائها. ها هو خطاب أخر لزعيم إسرائيلي "يمد يده للسلام". |