اوري افنيري 

حماقة خيالية / أوري أفنيري


يمكن النظر إلى الأحداث في غزة بالعين اليسرى أو اليمنى. كما يمكن شجبها بصفتها غير إنسانية، وحشية، وخاطئة، أو تبريرها كضرورية لا يمكن تجنبها.

ولكن بالإمكان وصف هذه الأحداث كحماقة دون شك!

لو كانت طيبة الذكر باربرا فيرتهايم توكمان لا تزال على قيد الحياة، كانت ستضيف فصلا إلى كتابها "مسيرة الحماقة" يدعى "حماقة خيالية".

بدأت القضية الأخيرة قبل بضعة أشهر عندما ناشد نشطاء غزيون بدعم من حماس المشاركة في مظاهرات مستمرة بالقرب من الحدود. أسموا هذه المظاهرات بـ "مسيرة العودة الكبرى"، تعبيرا عن حسن النية تجاه أكثر من مليون مواطن من غزة وأملا في عودتهم إلى ديارهم الأصلية.

تعاملت المؤسسات الأمنية الإسرائيلية بجدية معها. تخيل مواطنو إسرائيل صورة مقلقة: 1.8 مليون عربي، رجالا، نساء، وأطفالا، يخترقون الجدار ويدخلون إلى المدن الإسرائيلية وقراها. سيناريو فظيع.

وضع الجيش الإسرائيلي قناصة على طول الحدود وأمر بإطلاق النيران باتجاه كل "محرض". في عدد من أيام الجمعة المتتالية، أطلِقت نيران حتى الموت على أكثر من مئة متظاهر غير مسلح، من بينهم أطفال. وأصيب مئات المواطنين بإصابات خطيرة من النيران الحية. كما وتضرر مواطنون كثيرون إثر استنشاق الدخان.

ادعت إسرائيل أن الضحايا تعرضوا لإطلاق النيران عندما حاولوا "اختراق السياج الحدودي". ولكن في الواقع لم تكن هناك أية صورة توثق هذه الأقوال، رغم وجود مئات المصورين في المنطقة، من كلا جانبي السياج.

في ظل الاحتجاج العالميّ، غيّر الجيش تعليماته، لهذا أصبح عدد القتلى قليلا. كما وبدّل الفلسطينيون طريقة عملهم. فأصبحوا يستخدمون طائرات ورقية حارقة تشعل حرائق في الأراضي الإسرائيلية على طول القطاع.

لهذا يطالب وزير التربية، نفتالي بينيت، بأن تطلق طائرات سلاح الجو النيران على هؤلاء الفلسطينيين ليتعلموا درسا. لمزيد الحظ، يرفض هذا الطلب رئيس الأركان مدعيا أنه يعارض قيم الجيش.

أصبحت الصحف ونشرات الأخبار التلفزيونية مليئة بالأخبار من غزة الآن. يوافق الجميع على أنه ستشتعل حربا حقيقية سواء كان عاجلا أم آجلا.

أهم ما يميز هذه الأحداث هو كونها غبية تماما.

يجب أن تمثل كل عملية عسكرية هدفا سياسيا. كما قال المفكر العسكري الألماني، كارل فون كلاوزفيتز: "لا تشكل الحرب سوى تتمة للسياسة بواسطة الآخرين". أين السياسة الإسرائيلية؟

يصل طول القطاع إلى 41 كيلومترا، وعرضه 6 حتى 12 كيلومترا. هذه المنطقة هي واحدة بين ثلاثة مناطق هي الأكثر اكتظاظا في العالم. تسيطر عليها حماس المتطرفة.

في الماضي، دخل كل يوم صباحا إلى إسرائيل فلسطينيون من القطاع. ولكن منذ أن سيطرت حماس على الحكم في القطاع، فرضت الحكومة الإسرائيلية حصارا جويا، بريا، مائيا تاما تقريبا على المنطقة. تتعاون الدكتاتورية المصرية التي تكره الإسلام المتطرف مع إسرائيل.

إذا ما الذي تريده إسرائيل؟

الحل الأفضل هو إغراق كل القطاع ومواطنيه في البحر. ولكن مع غياب هذا الحل، ما الذي يمكن القيام به؟

آخر شيء ترغب إسرائيل في القيام به هو ضم القطاع والمواطنين العرب الكثيرين الذين لا يمكن طردهم. كما أنها لا تريد إقامة مستوطنات في تلك المنطقة. (لقد تم إخلاء المستوطنات التي أقيمت في الماضي بأمر من أريئيل شارون اعتقادا منه أن وجودها وحمايتها يكلفان كثيرا).

تهدف السياسة الإسرائيلية إلى جعل ظروف الحياة في غزة رهيبة ما يدفع مواطني غزة إلى النضال وإسقاط حكم حماس. لذلك تم تقليص إمداد القطاع بالكهرباء والماء لساعتين حتى ثلاث يوميا فقط. ازدادت البطالة بنسبة %50، وانخفضت الأجور إلى دون الحد الأدنى. أصبح القطاع يشهد ضائقة حقيقية.

يجب أن تمر كل بضاعة وهي في طريقها إلى غزة عبر إسرائيل (أو مصر). في بعض الأحيان، تُقطع الكهرباء والماء لأيام وذلك كـ "عقاب".

ولكن؟ يشير التاريخ إلى أن هذه الطرق لا تنجح غالبا تقريبا، بل تعزز الكراهية فقط. إذا، ما الذي يمكن القيام به؟

الإجابة سهلة ومضحكة: الجلوس، التحدث، والتوصل إلى اتفاق.

ولكن الجلوس مع عدو لدود، ترفض أيديولوجيّته الرسمية قيام الدولة اليهودية تماما؟

يعترف الإسلام الذي لديه إجابة لكل شيء (كما هي الحال مع كل ديانة) بـ "الهدنة"، التي قد تستمر لعشرات السنوات، ويشكل الحفاظ عليها وصية دينية.

لقد أعلنت حماس علنا تقريبا عن استعدادها للهدنة، وتطوعت مصر لتكون وسيطا. ولكن تجاهلت الحكومة الإسرائيلية الاقتراح كليا. التوصل إلى هدنة مع العدو؟ اقتراح مرفوض كليا! لا سمح الله، وهو غير شعبي أبدا!

ولكن هذا هو الحل الأكثر منطقيا. يجب إيقاف أعمال الكراهية من كلا الجانبين، مثلا لمدة خمسين عاما، إلغاء الحصار، بناء ميناء حقيقي في غزة، إقامة التجارة الحرة بإشراف جيش معين. وينطبق الأمر ذاته على بناء مطار، السماح للعمال بالعمل في إسرائيل، بدلا من استقدام عمال من الصين ورومانيا، تحويل غزة إلى سنغافورة أخرى، التنقل الحر بين غزة والضفة الغربية عبر جسر كبير أو طريق خارج القانون المحلي، ودفع التفاهم قدما بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

لم لا؟ لقد رفض كل إسرائيلي الفكرة.

صفقة مع حماس؟ مستحيل! حماس تسعى إلى تدميرنا. يعرف الجميع هذه الحقيقة.

سمعت هذه التصريحات عدة مرات، وفي كل مرة دُهشت من مدى حماقة من يذكرها.

كيف يمكن أن تنجح مجموعة مؤلفة من مئات الآلاف من نشطاء حماس فقط في "تدمير" إحدى الدول الأكثر تسلحا في العالم، التي تملك أسلحة نووية، وغواصات؟ كيف؟ هل بواسطة الطائرات الورقية الحارقة؟.

يتملق دونالد ترامب وفلاديمير بوتين لإسرائيل. يقف الرؤساء الديمقراطيون والطاغيون الفاشيون في العالم في طابور لزيارة إسرائيل. كيف يمكن أن تشكل حماس مصدر تهديد لإسرائيل؟.

لماذا لا توقف حماس العمليات ضد إسرائيل؟ لدى حماس متنافسون متطرفون أكثر. وهي لا تجرأ على إظهار علامات الضعف.

قبل عشرات السنوات، اقترح العالم العربي بمبادرة السعودية اتفاق سلام مع إسرائيل. كانت الشروط المقترحة مقبولة. ولكن لم توافق الحكومات الإسرائيلية على الاقتراح وتجاهلته كليا.

كان هناك منطق معين وراءه. فالحكومة الإسرائيلية ترغب في ضم الضفة الغربية، طرد العرب، وتوطين مستوطنين يهود بدلا منهم. تدير الحكومة هذه السياسة ببطء، بحذر، وباستمرار.

هذه السياسة وحشية، بغيضة، ولكنها تتضمن منطقا معينا. إذا كنت ترغب في تحقيق هذا الهدف فالطريقة ملائمة. ولكن لا ينطبق هذا على قطاع غزة الذي يرفض الجميع ضمه. إن استخدام هذه الطرق في غزة يعتبر غبيا.

هذا لا يعني أن سياسة الحكومة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية حكيمة أكثر، لا أبدا.

يبدو أنه ليست هناك سياسة لدى نتنياهو والوزراء المغفلين الذين اختارهم جميعا. ولكن لديهم سياسة غير معلنة: ضم الضفة الغربية ببط.

تتقدم هذه الخطوة الآن بوتيرة أسرع من تلك التي كانت حتى الآن. تشير الأخبار اليومية إلى أن كل أنظمة الحكم تركز جهودها تحديدا على هذا الموضوع.

سيؤدي هذا إلى دولة أبارتهايد، تسيطر فيها أكثرية يهودية على أقلية عربية.

كم من الوقت يستغرق هذا؟ جيل واحد؟ جيلين؟ ثلاثة أجيال؟

مع مرور الوقت، ستصبح إسرائيل دولة ثنائية القومية يسيطر العرب عليها.

يمكن القول إن الحكيم يعرف كيف ينقذ نفسه من المصيدة، والذكي لا يدخلها أصلا.

لا يمكن للغبي أن ينقذ نفسه من المصيدة، وهو لا يرى أن هناك مصيدة.