اوري افنيري 

توأم سيامي / أوري أفينري


بعد أن تطرقت إلى معظم الحلقات من مسلسل "القبطان" لأفيف دروكير، علي العودة إلى حلقة لم أتطرق إليها بعد: الحلقة عن يتسحاق رابين.

أعترف: لقد أحببته.

كان رجلا طيبا، نزيها، منطقيّا، حكيما، وسكوتا. مَن كان يدخل إلى غرفته، كان يحظى بكأس من الويسكي دون أية إضافات (كان يبدو لي أنه يكره الماء)، ويجلس أمامه ويُسأل سؤالا يجبره على التطرق مباشرة إلى الحديث.

كان توجهه هذا جيد مقارنة بسائر السياسيين. ولكن رابين لم يكن سياسيا أبدا. لقد كان جنديا بكل معنى الكلمة، وقادرا على تغيير تاريخ دولة إسرائيل، لهذا قُتِل.

الحقيقة المؤثرة في حياته هي أنه غيّر وجهة نظره كليا في سن 70 عاما.

فهو لم يُولد رجل سلام. لا إطلاقا.

لقد كان صهيونيا متشددا. شارك في كل معارك إسرائيل، المبررة وغير المبررة، وعمل بموجب أوامر تلقاها دون معارضتها. كان بعض أعماله وحشيا، وبعضها الآخر همجيا جدا. في الانتفاضة الأولى أمر جنوده قائلا: "يجب كسر عظامهم". نظر بعض الجنود إلى هذه التعليمات بجدية وعملوا بموجبها.

إذا، كيف حدث أن رابين اعترف بالشعب الفلسطيني (الذي سُلب منه حقه بالعيش)، أدار مفاوضات مع رئيس "الإرهابيين"، ووقع على اتفاق أوسلو؟

حالفني الحظ، ويبدو أنني الشخص الوحيد في العالم الذي سمع من بطلين أساسيين حول أحداث أوسلو، وكيف وصلا إلى نقطة التحوّل هذه في حياتهما (وحياة شعبهما). تحدث معي كل منهما عن قصته (في مناسبات مختلفة طبعا).

أخبرني رابين ما يلي تقريبا: بعد حرب الأيام الستة، دعمت، كسائر الأفراد تقريبا، "الخيار الأردنيّ". بما أن أحدا لم يفكر أنه سيُسمح لنا بمتابعة السيطرة على الأراضي التي احتللناها، سعينا إلى إعادتها إلى الملك حسين، شريطة أن تظل القدس الشرقية مع إسرائيل.

في أحد الأيام أعلن الملك أنه قطع علاقاته مع الضفة الغربية. لهذا تضاءل هذا الخيار. اقترح أحد الخبراء الإسرائيليين إقامة "أغودوت هكفاريم" وإدارة مفاوضات. ولكن فشلت هذه الخطة.

في عام 1993، عُقِد مؤتمر السلام الإسرائيلي العربي في مدريد. بما أن إسرائيل لم تعترف بالفلسطينيين، تم اعتبار الممثلين الفلسطينيين من الأراضي المحتلة جزءا من البعثة الأردنية. ولكن في كل مرة تطرق فيها النقاش إلى مواضيع فلسطينية، غادر الأردنيون الجلسة. عندها وجدت البعثة الإسرائيلية نفسها تدير نقاشا مع الفلسطينيين وحدها.

قال الفلسطينيون في كل مساء للإسرائيليين: سنتصل الآن بتونس للحصول على تعليمات من عرفات. كان ذلك مضحكا. لذلك قررت أنه من الأفضل التحدث مع عرفات مباشرة.

كل ما جاء أعلاه يتطرق إلى رابين. بالمقابل، كانت قصة عرفات شبيهة إلى حد كبير: بدأنا بنزاع مسلّح. لم ننتصر على إسرائيل. لهذا شجعنا الجيوش العربية على مهاجمة إسرائيل. في يوم الغفران، حقق العرب انتصارا أوليا بارزا، ولكن بعد ذلك خسروا في الحرب. عندها أدركت أنه لا يمكننا هزيمة إسرائيل. لهذا قررت خوض طريق السلام.

في الحلقة عن رابين، يتطرق دروكير إلى رابين بشكل غير دقيق حسب اعتقادي.

فهو يصفه كرجل ضعيف، أجبره شمعون بيريس، الذي كان وزير الخارجية على الوصول إلى واشنطن للمشاركة في اتفاقية أوسلو. بصفتي شاهدا، علي التصريح أن ذلك لم يكن دقيقا تماما.

لقد التقيت رابين للمرة الأولى في بركة "غالي غيل". تحدثت مع عيرز فايتسمان، الذي كان حينذاك ضابط سلاح الجو، ونجح في إغضاب بن غوريون بسبب سلسلة من النكات اللاذعة. وصل رابين وهو يرتدي ملابس السباحة مثلي، ولكنه تجاهلني وتوجه إلى عيزر مباشرة: "هل تبحث عن المزيد من المشاكل وتتحدث علنا مع أوري أفنيري؟".

في المرة القادمة، التقيته في عام 1969، عندما شغل منصب سفير إسرائيل في واشنطن. تحدثنا طويلا. حاولت إقناعه أن الطريق الوحيدة لضمان مستقبل إسرائيل هي صنع السلام مع الفلسطينيين، بقيادة عرفات. عارض رابين ذلك بشدة.

منذ ذلك الحين التقينا كثيرا. كان لدى صديقتي، النحاتة إيلانا غور، وسواس: أن ألتقي مع رابين ونتحدث بودية. لقد أجرت إيلانا احتفالات في أحيان قريبة في الأستوديو الخاص بها في يافا لكي نلتقي. كنا نلتقي غالبا بالقرب من الحانة، وبعد أن غادر الضيوف المكان كنا نجلس ونتحدث. انضم إلينا أريك شارون أحيانا. عم تحدثنا؟ عن القضية الفلسطينية طبعا.

عندما تحدثت عن المحادثات السرية التي أجريتها مع مبعوثي عرفات (في البداية مع سعيد حمامي، ثم مع عصام السرطاوي) عملت بناء على موافقتهم وأخبرت رابين بذلك. قال لي رابين في نهاية الحديث بيننا أقوالا مثل: "أعارض ما تفعله، ولكن لا أمنعك من لقائه. وإذا سمعت في هذه المحادثات أمورا على رئيس الحكومة الإسرائيلية أن يعرفها، فأنت مدعو للتحدث عنها معي".

بعد ذلك، اقترحت عليه بعض الاقتراحات التي طرحها عرفات، ولكنه رفض جميعها. تضمنت تلك الاقتراحات مبادرات صغيرة، لا سيما في الأمم المتحدة، ولكن رابين قال: "إذا بدأنا نسير في هذه الطريق، فسنضطر دون شك إلى إقامة دولة فلسطينية، ولكني أعارض هذا".

كان من الواضح أن عرفات أراد التحدث مع رابين. أعتقد أن هذا كان هدف عرفات الرئيسي عندما زرته في بيروت المحاصرة. (كما هو معروف، كان ذلك اللقاء الأول بين عرفات وإسرائيلي).

أتمنى لو كان في وسعي أن أقول إنني أقنعت رابين في تغيير رأيه كليا والتوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، ولكن لا أعتقد أني قادر على ذكر ذلك.

كان الخطأ التاريخي الذي ارتكبه رابين أنه بعد أن حقق تقدما في أوسلو، لم يتابع تقدمه ولم يصنع السلام. كان رابين بطيئا وحذرا أكثر مما يجب، كالأمير في الحرب الذي نجح في اختراق خطوط العدو، وبدلا من أن يسارع ويجعل قواته تتقدم توقف مترددا. لقد كلفه ذلك حياته.

بالمناسبة، كان يكرر رابين هذا الخطأ. قبل ذلك، عشية حرب الأيام الستة، عندما كان رابين رئيس الأركان، تسبب انتظاره الطويل، والتدخين القهري في تدهور حالته. لقد كان مشلولا في ذروة التوتر لمدة 24 ساعة. طيلة هذا الوقت، تسلم نائبه، عيزر فايتسمان، القيادة.

لم يمنع ذلك من رابين تحقيق النصر التاريخي، في الفترة التي وقفت إلى جانبه هيئة الأركان العامة الأفضل في تاريخ إسرائيل. لقد أقام رابين هذه الهيئة قبل الحرب بتأن.

بعد سنوات، عندما وقع الاختيار على رابين لشغل منصب رئيس الحكومة، حذر عيزر فايتسمان بشكل علني من أن رابين غير ملائم للمنصب. لذلك اتصل أريئيل شارون هاتفيا بمحامين وصحافيين في البلاد ليوضح لهم أن رابين مؤهل لشغل المنصب دون شك.

أؤمن أن رابين بطريقه الحذر والبطيء، كان سيوقع في النهاية على اتفاقية سلام مع القيادة الفلسطينية ويعمل على إقامة الدولة الفلسطينية. استبدل تعامله السلبي تجاه عرفات بتعامل يستند إلى الاحترام المتبادَل. لقد زاره عرفات في منزله سرا.

الموضوع المركزي الذي تطرقت إليه هذه الحلقة من مسلسل أفيف دروكير هو العداوة بين رابين وشمعون بيريس، تلك العداوة غير المبررة. كره الزعيمان بعضهما بعضا، ولكن لم ينجحا في الابتعاد عن بعضهما. لهذا كانا أشبه بتوأم سيامي، مرتبطان معا ولكن يكره أحداهما الآخر.

حدث ذلك منذ البداية. لقد تنازل رابين عن التعليم العالي (في مجال الزراعة) وعمل متطوعا في البلماح. في حرب 1948 كان ضابطا حربيا. أما بيريس فلم يتجند أبدا. لقد أرسله بن غوريون إلى خارج البلاد لشراء الأسلحة - وظيفة هامة جدا، ولكن كان في وسع ابن 60 عاما أن يؤديها أيضا. كان بيريس ابن 24 عاما (أكبر مني بأسبوعين).

منذ ذلك الحين، أصبح يكرهه كل أبناء جيلي. لصقت به تلك الوصمة إلى الأبد. وكانت إحدى الأسباب لعدم فوزه بالانتخابات. ولكن كان ملك التحدي. وصفه رابين بصفته "تدخلي بشكل مستمر".

شكلت نقطة الجدل النهائية الطريق إلى أوسلو. كان بيريس وزير خارجية حينذاك.

لقد مررت بتجربة غريبة وقتها. تلقيت مكالمة هاتفية طُلِب مني فيها الالتقاء ببيريس. عندما زرته تحدث معي طيلة ساعة، وأوضح لماذا يجب صنع السلام مع الفلسطينيين. بما أن هذا كان الموضوع المركزي في حياتي طيلة عشر سنوات، بينما كان يعارض رابين هذه الفكرة بشدة، كان هذا الموقف سرياليا. أصغيت بهدوء وتساءلت لماذا يعارض رابين.

في وقت لاحق، عندما نُشرت تفاصيل حول أوسلو، فهمت الموضوع: سعى بيريس إلى أن يعرض أوسلو كجزء من إنجازاته.

ولكن رابين، رئيس الحكومة، هو الذي اتخذ القرار المصيري وتحمل المسؤولية. لذا، قُتِل.

المشهد الأخير في الدراما: وقف الجاني في أسفل الدرج، وهو يحمل مسدسا. انتظر حتى نزل رابين الدرج. ولكن نزل بيريس أولا. وقد سمح له الجانبي بالمرور دون أن يعرض حياته للخطر.

وكانت تلك الحادثة محزنة.